فلنهنئ أنفسنا بفضل الله وكرم الله وعطاء الله ونعم الله وخيرات الله التي حفَّنا بها وأكرمنا ببركة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو كانت الأشجار كلها أقلاماً والبحار والمحيطات كلها مداداً وكتبوا من بدء البدء إلى نهاية النهايات ما وفُّوا بذرة من فضل الله الذي غمر به حبيبه ومصطفاه صلى الله عليه وسلم وهذا الكلام ليس كلامي أنا بل كلام ربِّ العزَّة في قوله {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا} ولم يقل (وإن تعدوا نعم الله) لو قال: (نِعَمَ الله) كان يعني بذلك التي حولنا والنعم التي فينا والنعم التي لنا السماء والأرض والبصر والسمع والمأكولات والمشروبات والطيور والحشرات والشمس والقمر والنجوم والهواء والضياء والخلاء والملأ والنعم التي ليس لها نهاية
لكن ربَّنا قال لنا: إنَّها نعمةٌ واحدة {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا} ونعمة الله هنا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم من الذي قال ذلك؟ الذي قال ذلك ربُّ العزَّة والقرآن يفسر بعضه بعضاً فقد قال لنا فيه { وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ} ما هذه النعمة؟ {إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} ما النعمة التي ألَّف بها الله بين القلوب؟ إنَّه الحبيب المحبوب فالنعمة التي عقدت الأخوة بين النفوس رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أحيا الله به النفوس بعد ضلالة وعلَّمنا به بعد جهالة وجمعنا به بعد فرقة وأعزَّنا به بعد ذلَّة وجعلنا به الله خير أمة أخرجت للناس إذاً النعمة برسول الله لا نقدر عَدَّها لا نقدر عدَّها بمعني لا نقدر أن نَعِدَّ مآثرها ولا فضائلها ولا خصائصها ولا مزاياها التي أكرمنا بها الله في الدنيا والآخرة فلا يوجد أحدٌ في السابقين واللاحقين يقدر أن يعدها - مجرد عدٍّ - وليس يشرحها
فَإِنَّ فَضْلَ رَسُولِ اللهِ لَيْسَ لَهُ حَدٌّ فَيُعْرِبُ عَنْهُ نَاطِقٌ بِفَــمِ
من الذي يستطيع أن يُفصح أو يبيِّن أو يوضح أو حتي يعدّ؟ {وَإِن تَعُدُّواْ} وإن تعدوا خصائص أو فضائل أو جمالات أو كمالات أو منح أو مِنَن أو عطاء الله لرسول الله لن تحصوها أي: لا تستطيعوا حتي كتابتها في كشف - فضلاً عن أن تشرحوها أو تعرفوها أو توفُّوها ففضل الله علينا برسول الله عظيم وعبَّر عن هذه الحقيقة الإمام الشافعي رضي الله عنه وقال في قول مجمل غير مفصَّل (أصبحنا – كلُّنا الأولين والآخرين حتي النبيين والمرسلين حتي الملائكة المقربين حتي أهل عليين - أصبحنا وما بنا من نعمة ظاهرة أو باطنة في دين أو دنيا إلا ورسول الله صلى الله عليه وسلم سَبَبُهَا وهو الذي أوصلها إلينا)
فلنحاول أن نعرف بعض قطرة من بحار الجمالات المحمدية أو بعض ذَرَّةٍ من كنوز الفضائل النبوية وكلُّ واحد فينا سيقول على قدره لأن الله عزَّ وجلَّ أثني - على قدره - على حبيبه ومصطفاه صلى الله عليه وسلم فعندما ننظر إلى آية واحدة من كلام الله {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} هذه الآية لما نزلت على حبيب الله ومصطفاه صلى الله عليه وسلم اجتمع أصحابه في مسجده الشريف فرحين ومسرورين وأخذوا يشكرون الله ويثنون على الله على هذا الفضل الذي خصَّ به سيدنا ومولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم والخطباء يبيِّنون ويشرحون والشعراء يقولون ويفصحون وكان من جملة قول إمام الشعراء في زمانه سيدنا حسان بن ثابت رضي الله عنه قوله:
سَمِعْنَا فِي الضُّحَي وَلَسَوْفَ يُعْطِي فَسَرَّ قُلُوبَنَا ذَاكَ العَطَـاءُ
وَكَيْفَ يَا رَسُــولَ اللهِ تَرْضَي وَفِينَا مَنْ يُعَذَّبُ أَوْ يُسَاءُ؟
فهذا من جملة العطاء عندما قال له ربُّه{وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} بعد أن قال له في الآية الأخرى {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} ففي هذه الآية يوضح لنا أنه عزَّ وجلَّ أعطاه ما يريد وفي الآية الأولي {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ} هذا في المستقبل في الدنيا ويوم الدين سيعطيك ما تريد الإمام جعفر الصادق رضي الله عنه قالوا له: ما حدود العطاء الذي في هذه الآية؟ قال (لن يرضي صلى الله عليه وسلم وواحد من أمته في النار) هذا العطاء لو فصَّلنا بعضه سنعرف ونعلم علم اليقين أننا أمة مكرمة وأمة مرحومة وأمة مخصوصة بالنبي صلى الله عليه وسلم وسنكرر بصوت عال: يا بختنا بالنَّبِيِّ ويا هنانا بالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
إذا كان الأنبياء مع علوِّ مكانتهم عند الله ومع رفعة منزلتهم التي خصَّهم بها الله يريدون بعض عطاء الله الذي أعطاه لحبيبه ومصطفاه فسيدنا رسول الله لقد وُلِدَ ليلة اثنتا عشر من شهر ربيع الأول وكان هذا ميلاد الجسم لكنه له ميلادٌ آخر للحقيقة والنُّور والرُّوح الكلية وهذا كان قبل القبل ويقول فيه صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح (إنِّي عند الله لخاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته)[1] أي: لم يكن آدم شيئاً مذكوراً أنا عند الله خاتم النبيين وآدم لم يَنْفُخْ فيه الله الرُّوح وقال في الحديث الآخر ليبيَّن رتبته(كُنْتُ أول النبيين في الخلق وآخرهم في البعث)[2]
إذاً عندما يقول رجل مسلم: يا أول خلق الله فهذا كلام صحيح وهذا دليله من السنَّة فإذا أراد دليلاً قرآنيًّا نقول له في قول الله {قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} مَنْ أول العابدين بنص كلام ربنا عزَّ وجلَّ ؟ فأول مخلوق خلقه الله هو نور حبيبه ومصطفاه فقد خلقه من نور جماله وبهاه أما الكيفية فتلك أمورٌ نُورانية تحتاج إلى شفافية وإن الإنسان لكي يتأهل لذلك لابد له من دورة روحانية في علوم المكاشفة - وليس في علوم الدراسة - كي يصل لهذا المقام لكن القرآن وضَّح الحقيقة لكل إنسان {قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} أي أنا أول مَنْ عَبَدَ الله فلم لم أَرَ له ولداً ولا زوجة
وهو أول شاهدٍ ومشهود صلى الله عليه وسلم فَخَلَقَ الله أول ما خلق وأول ما ذَرَأ وأول ما بَرَأ نُورَ حبيبه ومصطفاه وخلق من نوره نور الأنبياء والمرسلين وأرواحهم وذواتهم النورانية وحقائقهم الربانية وهذا قبل وجودهم في عالم الأجساد الطينية - لأن هذه في الدنيا لكن الحقائق الأولي كانت في عالم الظهور وعالم النور وعالم الإشراقات وعالم التجليات وهو عَاَلَمٌ خاصٌ بأهل الاجتباء والاصطفاء من الرسل والأنبياء عليهم وعلى نبيِّنا أفضل الصلاة وأتم السلام وبعدما خلق الله أرواحهم وذواتهم النورانية جَمَعَهُمْ وأخذ عليهم العهد والميثاق وسجَّله في قرآنه الكريم وفي نوره القديم وقال لنا فيه - لنعرف قَدْرَ حضرة النبي {وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ - ولم يقل ميثاق المرسلين لأنهم كانوا لم يرسلوا بعد وإنما كانوا أرواحاً نورانية - لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ} هو الذي يصدِّق عليكم ويعتمد قراراتكم
قد قال فيه {وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} في القراءة الثانية قال (وَخَاتِمَ النَّبِيِّينَ ) فهو الختم الذي يختم للنبيين وقد وضَّح ذلك إمام الأنبياء والمرسلين فقال (يأتي يوم القيامة الأنبياء النَّبِيُّ ومعه الرهط – يعنى العدد الكبير - والنَّبِيُّ ومعه الجماعة والنَّبِيُّ ومعه الواحد) {فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ } {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ - وهو رسولهم - وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَـؤُلاء شَهِيداً} فهو شهيدٌ على الكل هنا لمحة بسيطة لنُبَيِّنَ فضل الله علينا بحضرة النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وببركة حضرة النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم النازلة علينا فربُّنا قال للأنبياء {ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ} هو رسول الأنبياء وقد قال لهم: {لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ} إذاً لابد أن يؤمنوا برسول الله فكل الأنبياء مؤمنين بسيد الأنبياء فهو نَبِيُّ جميع النبيين ورسول جميع المرسلين ورسول الخلق أجمعين من بدء البدء إلى يوم الدين {لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ} يف ينصرونه؟ أن يبينوا صفاته ويوضحوا علاماته لأمَمِهم ويقولوا لهم إذا حضرتم زمن بعثته فلابد أن تتبعوه ولابد أن تؤمنوا به ولذلك فكلُّ نَبِيٍّ كان يُوصي أمته بأنه ليس نبيَّ الختام وإنما جاء بالنيابة عن رسول الملك العلام لجميع الأنام صلى الله عليه وسلم وقد قال في ذلك أحد الحكماء :
الرُّسُـلُ مِنْ قَبْلِ الحَبِيبِ مُحَمَّدٍ نُوَّابُهُ وَهُوَ الحَبِيبُ الهَـادِي
مُوسَي وَعِيسَي وَالخَلِيلُ وَغَيْرُهُمْ يَرْجُـونَ مِنْهُ نَظْـرَةً بِوِدَادِ
رَغِبُوا يَكُـونُوا أُمَّــةً لمُحَمَّدٍ وَبِحُبِّـهِ فاَزُوا بِكُلِّ مُـرَادِ
وَبِمُحْكَمِ القُرَآنِ عَاهَدَهُـمْ لَهُ أَنْ يُؤمِنُوا بِسِـرَاجِهِ الوَقَّاد
فأخذ عليهم الله العهد أن يؤمنوا به وينصروه فقد سأل أحد التابعين سيدنا عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن صفات رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة والإنجيل؟ فقال (وصفه الله في التوراة بما وصفه به في القرآن فكما قال في القرآن {وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} قال في صفته في التوراة والنجيل - وهي قريبة من صفته في القرآن {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً} أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا صخَّابٍ في الأسواق ولا يجزي بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويصفح ولن يقبضه الله حتي يقيم به الملَّة العوجاء بأن يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله ويفتح الله به أعيناً عميا ويسمع به آذاناً صماً وقلوباً غلفا)[3]
فكانوا مأمورين أن يبلِّغوا هذه الرسالة ويبينوا أوصافه والذين معه{مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ - هذه أوصافهم الموجودة في التوراة - وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ}ما جاء في بقية الآية فحتي أوصاف أصحابه كان الأنبياء السابقون يبيِّنوها بأدق بيان لماذا؟ لأن هذا عقد الله وميثاق الله {لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي - وافقتم على هذا العقد – قَالُواْ أَقْرَرْنَا - فكلنا موافقون – قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ}
ماذا يشهدون؟ كَشَفَ لهم عن جمال رسول الله وعن طلعته وبهاه ليعرفوه بنعوته وصفاته وجمالاته فيصفونه لأُمَمِهِم كما رأوه وشاهدوه صلى الله عليه وسلم ثم قالوا: يارب أخذت علينا البيعة وكنا ما نزال أرواحاً نورانية ونطمع أن نجدِّدها مع سيد الأولين والآخرين في حياته الدنيوية فنؤمن به ونبايعه بعد بعثته ورسالته ولذلك جمعهم الله أجمعين في بيت المقدس مائة وأربعة وعشرين ألف نَبِيٍّ كانوا موجودين واصطفوا سبعة صفوف وجاء سيدنا جبريل وأخذه صلى الله عليه وسلم من يده وقال له: تقدَّم صلِّ بهم فأنت الإمام لهم فهو الإمام لهم في الدنيا والاخرة وفي ذلك يقول أحد الصالحين :
صُفُّوا وَرَاءَكَ إِذْ أَنْتَ الإِمَامُ لَهُمْ قَدْ بَايَعُوكَ عَلَى صِدْقِ المُتَابَعَةِ
أَبُوهُمُو أَنْتَ يَا سِرَّ الوُجُـودِ وَلا فَخْرٌ وَسِـرُّ همو قَبْلَ المُعَاهَدَةِ
فصلُّوا كلُّهم وراءه صلى الله عليه وسلم وعقدوا له اجتماعاً عظيماً كلَّه حفاوة وتكريم وكلُّ نبيٍّ ذكر في خطبةٍ عصماء بعض ما تفضل به عليه الله وفي الختام قدَّموا سيدنا محمد رسول الله فقال (الحمد لله الذي شرح صدري ويسر أمري وجعلني فاتحاً خاتماً وجعل أمتي خير أمة أخرجت للناس) وذكر بعض مناقبه ومناقب أمته فسيدنا إبراهيم وقف وقال (بهذا فضلكم مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم ) فلا يشك أحد منا أن الرسل كلَّهم من أتباعه وكلُّهم مؤمنون به وهو رسول المرسلين ونَبِيُّ النبيين