أيها الإنسان يروق لك الإبحار في كل البحار إلا ذلك البحر .. وهو بحر أنت فيه يوم مولدك .. حيث وجدت نفسك فجأة متواجداَ عند ساحل الحياة .. في لحظة الماضي فيها سر في علم الله .. والحاضر فيها أنت ذاك الضعيف المعتمد على سند الآخرين .. والغـد يمثل أمامك ذلك البحر المجهول .. فتتهافت نفسك لكي تخوض تجربة البحر المجهول بشوق وهيام .. وتخدعك التأملات الكثيرة الكاذبة .. إبحار في البدايات مقرون بالافتنان والتشوق .. ثم رويداً رويداَ الابتعاد عن سواحل البدايات والتوغل في عوالم المحيطات .. مخاطرة في غفلة العقل والحكمة .. ثم الخوض مع الخائضين .. وفجأة عند أعتاب الأربعين من العمر تلوح لك هناك في الآفاق البعيدة علامات بر مجهولة المصير .. تلك العلامات التي لا تحبها كثيراَ نفس المسافر .. ومن العجيب أن مسافر بحار الأرض يفرح عند رؤية البر بعد طول سفر وعناء في أعالي البحار .. إلا هنا فالمسافر في بحر الحياة لا يفرح عند رؤية البر أو الساحل الأخر .. ولا يسر بتباشيره أو علاماته .. فهو لا يريد أن يبلغ ذلك البر بأي حال من الأحوال .. بالرغم من أنه يشقى كثيراَ في سفره تلك عبر الحياة .. ومع ذلك فالحكم ليس في الكف .. وبلوغ ذلك البر وذلك الساحل لا بد يوماَ عاجلاَ أم آجلاَ .. حقيقة لا يساومها الشك أو الاجتهاد .. وهي تلك الحقيقة التي لا تريدها النفس .. ولا تريد الخوض في تفاصيلها .. وكل نفس ذائقة الموت إلا أن كل نفس لا ترى الموت لذاتها .. وتظن الموت جدلاَ يدور في ساحة الآخرين .. وتلك حاضرة كل نفس حتى تلتقي بالموت وجهاَ لوجه .. وعند ذلك فالإشارة تؤكد أن بحر الحياة قد تم عبوره .. وأن السيرة قد طويت صفحتها .. وأن ذلك السفر قد بلغ أجله بما له وبما عليه .. لتصبح المجريات في أضابير سجلات الأعمال .. ثم الإشارة ببداية مرحلة أخرى حيث المحك الأعظم .. والإنسان يروق له الحديث والاستماع لكل تأملات الدنيا والحياة ويحب أن يخوض فيها ما طاب له ولذ .. إلا أنه لا يحب الخوض في تأملات الموت .. ولا يريد أحد الإبحار في ذلك الاتجاه .. وسبحان الله .. فالساحل الأول يتم اجتيازه بقدر محكم .. ثم الساحل الثاني لا يريد أحد أن يبلغه ولكن هو ذلك القدر المحكم أيضاَ ولا محـال !! .